الأحد، 8 سبتمبر 2013

مسيرة طويلة نحو الحرية السيرة الذاتية لنلسون مانديلا ...










مسيرة طويلة نحو الحرية السيرة الذاتية لنلسون مانديلا




من أحلى كتب السير الذاتية التي قرأتها، وأكثرها صلة بنضالنا في العالم العربي من أجل الحرية والديمقراطية. تبدأ مع طفولة المناضل الأفريقي الأشهر نيلسون مانديلا، وتنتهي بتوليه الرئاسة في بلده، لكن نهاية الكتاب هي في الحقيقية بداية، فهي وعد باستكمال طريق النضال الطويل نحو الحرية..

لن أتحدث طويلا عن الكتاب، لكني سأنقل بعض العبارات والمقاطع منه التي أراها الأهم، أو الأشد صلة بواقعنا العربي، أو -وهو الأغلب- المقاطع التي تحمل أفكارا استغربت أن تصدر عن مناضل مثله، وعلى سبيل المثال خلافه مع بعض من قادة " المؤتمر" على فكرة المقاومة المسلحة والعنف.. وفي ذلك يقول مناديلا عن فترة بداية مقاومة الأبارتايد في جنوب أفريقيا:

 "
الحكومة والشرطة كانت قد اتخذت التدابير لمنع أي اجتماع سلمي وتجريمه، وكانت الأمور تسير تجاه حكم بوليسي . وبدأت أرى أن الاحتجاجات القانونية ستصبح مستحيلة في الوقت القريب فإن المقاومة السلمية تكون فعالة إذا تمسك من تقاومهم بنفس القوانين التي تتمسك بها أنت وإلا فلا فاعلية لها. وبالنسبة لي كان عدم العنف إستراتيجية فقط ولم يكن مبدأً أخلاقيا. فلا يوجد خيار أخلاقي في استعمال سلاح غير فعال."  


وفي موقف آخر يقول  :

"
  لا نستطيع هزيمة الحكومة عسكرياً، ولكن بوسعنا جعل حكمها صعبا."  

وهي فكرة شجاعة من مانديلا، ولها منطق وجيه، لكنها مخيفة، وحتما كانت السبب وراء العديد من أحداث العنف الدموية التي يسردها الكتاب فيما بعد، وإن كان البادئ في تلك الحالات كان غالبا سلطات الدولة القمعية ...

 لكني أتساءل ... ماذا لو كان مانديلا قد تعامل مع قضيته بسلمية غاندي، هل كانت ستجدي؟ هل كان المصير سيختلف؟
ومع ذلك فإن اللجوء إلى العنف كان الحل الأخير الذي اضطر إليه المؤتمر، بعد محاولات مستمرة لحل القضية سلميا فشلت جميعها لتعنت السلطة في التعامل مع السكان الأصليين
والمنظمات التي تمثلهم.

على أن سنوات السجن التي تقارب الثلاثين قد صقلت فكر مانديلا، وقد تطورت آرائه بشكل كبير، إذ اكتشف لاحقاً انه أحياناً ما تكون المفاوضات هي الحل للخروج من المشكلة، بدلا عن صراع طويل الأجل يستنفذ الطاقات بلا جدوى حقيقية.. وكان هذه الفكرة من المفاجآت بالنسبة لي في هذا الكتاب.. فلم يتصور مناديلا كمفاوض، بل كمناضل، ولم أكن أعرف أنه شارك في مفاوضات طويل الأمد إلى خذا الحد...

على أن مانديلا ظل رافضاً لوقف العنف ضد السلطة، طالما اقتنع ان السطلة لن تنفذ تعهداتها ... وكان مصرا على أن يرتبط وقف العنف بتنفيذ خطوات جدية من جانب السلطة.. حيث لم يكن تطور فكر مانديلا وقبوله بالمفاوضات بديلا عن النضال على الأرض، لاسيما عند النظر إلى هذا النضال، ليس كطريقة للحل، بل كورقة من أوراق المفاوضة...

 

وفي ذلك يقول :

"
كنت أود إفهام الحكومة أنه رغم رفضي العرض فإني اعتقد أن المفاوضات  ـــ هي خيارا نضاليا لا تبنى على التنازل عن الثوابت الوطنية ــ وليست الحرب هي السبيل للحل."

كما يؤكد مانديلا على أن الأولوية للحلول السلمية، فحتى العنف لم يلجأ إليه إلا كحل أخير:

"الشروط التي تريد الحكومة فرضها تسبب لي الدهشة، لأننا لم نسلك طريق العنف إلا بعد أن سدت أمامنا جميع .طرق المقاومة"

ولنتأمل هذا الرأي الذي يقوله مانديلا هنا :
 (وكان ذلك في مناسبة انضمام اشخاص جدد للمؤتمر، مع ملاحظة ان مانديلا لم يكن قد تعرض للسجن بعد  :

"
وكان عديد ممن انضموا للمنظمة الجديدة قد فعلوا ذلك لأسباب شخصية منها الغيرة والرغبة في الانتقام. وكان اعتقادي دائماً أن على المقاتل من أجل الحرية أن يكبت كثيرا من المشاعر الشخصية التي تجعل منه فرداً مستقلاً بدلاُ من جزء من حركة جماهيرية، واعتقدات أن كثير من تلك الآراء والتصرفات غير ناضجة. ورغم تعاطفي مع آراء الأفارقة والقوميين فقد كنت اعتقد أن النضال من اجل الحرية يتطلب من الإنسان القبول بآراء وسيطة وتقبل نظم قاومها حينما كان أحدث سنا."


"
ليس هناك أي تعارض لتأييدي الكفاح المسلح وتمسكي بالمفاوضات، فالكفاح المسلح هو الذي أتى بالحكومة إلى حافة المفاوضات."
أي أن مانديلا يربط بين الاثنين، ولا يرى الكفاح المسلح غاية، بل وسيلة للوصول إلى المفاوضات، فالمفاوضات بالنسبة له هي الأساس.
وعن رأيه في أساليب المقاومة داخل السجن:

"
وكنت أرى أن مجرد الإضراب عن الطعام داخل السجن أمر غير واقعين فلكي يكون فعالاً يجب أن يعلم به العالم الخارجي، وكانت الاتصالات شبه مستحيلة في تلك السنوات. وبالنسبة لي كان الإضراب عن الطعام أمراً سلبياً يضر بصحة أجسادنا الضعيفة ، واستدعاء للموت. وكنت دائماً أفضل أنواع المقاومة الأكثر ايجابية ونضالاً كالإضراب عن العمل والتباطؤ ورفض أعمال النظافة وتلك أعمال تضر بالسلطات ولا نعاقب بها انفسنا. ..."

ثم يعود مانديلا للتأكيد على نقطة هامة في النضال ضمن مجموعة.. إذ رغم اختلاف أعضاء المؤتمر على العديد من الأفكار إلا أن القرار ما إن اتخذ حتى يلتزم به الجميع.

"...
ولكن اقتراحاتي لم تلق تأييدا، وكان متى اتخذ القرار أؤيده تماما..." 

ثم يخرج مانديلا منتصراً من السجن، وتبدأ مفاوضاته مع الحكومة، وتظهر مشكلة جديدة ...
"كانت هناك المشاكل الفلسفية أيضاً، فإنه بالإمكان توحيد الحركة أثناءالحرب مع العدو المشترك، لكن إيجاد سياسة على مائدة المفاوضات أمر مختلف، فإنه كان علينا أن ندمج مجموعات عديدة في المؤتمر وأيضاٌ آراء مختلفة." ..


مما يذكرني بمرحلة ما بعد الثورة التي تمر بها دول الربيع العربي أو أي دولة تخرج من حالة حراك جماهيري كبير على الأرض ضد عدو مشترك.

وقد توصل مانديلا إلى حل تلك المشكلة جزئياً من خلال مؤتمرات جماهيرية واسعة، لكن لم تكن تلك نهاية المشكلات..
فقد نكثت الحكومة بوعدها في مرحلة ما، وتسببت في مذبحة كبيرة، وقام مانديلا يخطب في الجماهير فلاحظ ما يلي :

"كانت اللافتات التي حملها المتجمهرون تنادي باستعمال السلاح والتخلي عن المحادثات، وتفهمت عواطف الجماهير التي كانت تريد إسقاط الأبارتايد وكانت قد سئمت المفاوضات، وكان العمل الجماهيري في تلك اللحظة طريقاً وسطاً بين المفاوضات والكفاح المسلح." 

ويقصد بالعمل الجماهيري هنا حركة واسعة من المظاهرات والاضرابات التي نظمها المؤتمر في البلاد.

ومن المثير للاهتمام حقاً ان مانديلا أجرى عدد من الاجتماعات مع مسؤولي الحكومة بشكل سري، ولم يكن ذلك خداعا للجماهير، ولكن لإعطاء الفرصة للحكومة للتفاوض دون ضغوط الرأي العام للبيض الذين كانوا يرفضون التفاوض مع الأفارقة.. فمانديلا كان مفاوضا بارعا، فضل مساعدة الخصم من أجل الوصول إلى تسوية مقبولة من كافة الأطراف على أن يضغط على الحكومة من اجل الدخول في مفاوضات علنية تتوقف بعد قليل تحت ضغط الرأي العام، فتصل البلاد بذلك إلى طريق مسدود ...





ومن اللافت للنظر كذلك الطريقة التي تعامل بها المؤتمر مع الجماهير في فترة الانتخابات، التي دخلها المؤتمر لأول مرة كمنظمة شرعية.. إذ نظم المؤتمر مؤتمرات جماهيرية واسعة لتوعية الجماهير "مؤتمرات الشعب"، وصاغ برنامجه بشكل مفصل ليشرح رؤيته، لافتاً النظر إلى أنه لا يريد للمؤتمر أن يكسب تعاطف الجماهير وأصواتهم عبر تذكيرهم بما قدمه لهم في فترة النضال، ولكن عبر طرح رؤيته للمستقبل، فالنضال لا يجب في رأي مانديلا أن يكون الإنجاز الوحيد الذي على أساسه يكسب المؤتمر أصوات الجماهير ويصل إلى البرلمان .

كما يلفت مانديلا الأنظار إلى أمر آخر:

"
وشعرت أيضاً أننا يجب أن نخبر الشعب بما لن نستطيع عمله. فقد كان الجميع يشعرون أن الحياة يمكن أن تتغير في أعقاب انتخابات ديمقراطية حرة. ولذلك كنت أخبر الجماهير أنهم يجب ألا يتوقعوا أن يتملكوا سيارة مرسيدس ويكون لديهم حوض سباحتهم الخاص بعد الانتخابات، فكنت أقول لهم انه لن يكون هناك تغيير مفاجئ سوى احترامهم لأنفسهم كمواطنين في أرضهم وأنهم قد ينتظرون خمس سنوات لتؤتي الخطة ثمارها، كما كنت أقول لهم إن عليهم أن يعملوا بجد إن أرادوا حياة أفضل " فلن نفعل ذلك لكم ولكنكم أنتم الذين ستحققونه بأنفسكم   ."

وفي الخاتمة المؤثرة التي كتبها مانديلا منهياً
بها قصة صراع طويل، يقول :

 "
لم أفقد الأمل أبداً أن التغيير لابد آت، ليس فقط بسبب هؤلاء الأبطال، لكن بسبب شجاعة النساء والرجال العاديين من شعبي، فلا يوجد أحد يكره شخصاً بسبب لونه او خلفيته أو دينه ، فإن الناس لابد أن يتعلموا أن يكرهوا، وإن كانوا قادرين على تعلم الكراهية فلابد وأنهم قادرون على تعلم الحب. ففي أحلك أوقات السجن حينما كنت ورفاقي نساق إلى حافة القدرة على الاحتمال كنت أرى وميضاً من الإنسانية في أحد الحراس، ربما لمدة ثانية، لكن كان ذلك الوميض يطمئنني."  ..

الحق أن قصة كفاح جنوب أفريقيا، ومانديلا تحديدا، من أروع قصص الكفاح، تكاد تكون أسطورية، وأرى فيها الكثير من ملامح الربيع العربي، وإن كان الفارق الأساسي (بخلاف أن ما يجري في العالم العربي ثورات وانتفاضات وليس مجرد صراع من أجل الحقوق المدنية) أن مانديلا لم يفكر في الانتقام من نظام سابق، بل وسعى للتأكيد في كل مناسبة، وفي كل موضع من هذا الكتاب على أنه لا يرغب في طرد البيض من البلاد ولا في الانتقام منهم، بل في أن يكونوا شركاء للأفارقة في الوطن (وربما يعود هذا لمسألة الفرق بين الثورة والكفاح من اجل الحقوق المدنية كما أسلفت)..
ويتجلى الفارق الثاني في أن كفاح جنوب أفريقيا كان منظم من قبل عدد من المنظمات، ولم يكن حركة جماهيرية غير منظمة، مما أعطى الأفارقة القدرة على ترتيب أنفسهم بشكل أفضل، وجعل من الممكن التفكير بشكل عملي وفي حلول المشكلات بشكل أكثر حكمة في المواقف التي تحتاج إلى تعامل دقيق.


الخلاصة: أنصح كل عربي بقراءة هذا الكتاب، فما أحوجنا الآن إلى استخلاص العبر من تجارب من سبقونا، لا سيما لو كانت متشابهة في كثير من جوانبها مع ظروفنا








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق